21/02/2024 - 10:48

المنهجيّات اليوتوبيّة وسؤال فلسطين | ترجمة

المنهجيّات اليوتوبيّة وسؤال فلسطين | ترجمة

من مظاهرة في لندن داعمة لفلسطين رفعت شعار: Never agin | مارك كيريسون.

 

العنوان الأصليّ: Utopian methods and the question of Palestine.

الكاتب (ة): شيرين فوسوغي. 

المصدر: Blue Dandelion. 

ترجمة: علاء سلامة. 

 


 

تمّت مشاركة التأمّلات التالية جزءًا من لجنة نظّمتها «مجموعة العمل التاريخيّ الثقافيّ» حول موضوع «صناعة المستقبل اليوتوبيّ (الطوباويّ) التخيّليّ». كنت أفكّر في أدوارنا كمربّين وباحثين في هذه الأوقات، وفي علاقاتنا بتخصّصاتنا. بهذه الروح، قرّرت طباعة نصّ الحديث الّذي دار هناك. شكرًا لأولئك الّذين قدّموا تعليقات على المسودّات الأوليّة. أيّ أخطاء هنا هيّ من عندي.

كان شرفًا ليّ أن أُدْعى لمناقشة «صناعة المستقبل اليوتوبيّ التخيّليّ» مع هذه المجموعة الرائعة من الباحثين/ ات. وبينما كنت أفكّر في ما يمكن أن يكون مهمًّا قوله في هذه الأيّام، وجدت من المستحيل عليّ الحديث عن منهجيات يوتوبيّة دون معالجة ما يتكشّف حاليًا في فلسطين. لذا، سأخصّص دقائقي، حصّتي من الكلام، لأشارككم بعض الأسئلة الّتي كنت أصارعها بصفتي مربّية وباحثة وأمًّا، وبصفتي إيرانيّة لديّ تاريخي من المقاومة السياسيّة والقمع والحلم.

لقد كنت أسأل نفسي: ماذا يعني الانخراط في عمل بناء العوالم التخيّليّ التعليميّ المهمّ وسط الحرب الأمريكيّة الإسرائيليّة الجارية على شعب غزّة والضفّة الغربيّة؟ عدد الفلسطينيّين الّذين قُتِلُوا وأُصِيْبُوا وتعرّضوا لإعاقات ونزحوا في الأشهر الثلاثة الماضية، وخاصّة بين الأطفال، يصل إلى مستوى غير مسبوق في الحروب الأخيرة. قصف المدارس، والجامعات، والمستشفيات، والمساجد، والكنائس، والمنازل، والأراضي الزراعيّة، والمخابز، والمكتبات، وشاحنات المساعدات، ومخيمات اللاجئين، قَتْلُ أكثر من 100 صحافيّ، تجويع مليوني شخص، نصفهم من الأطفال، وتفاخُرُ العديد من المسؤولين الإسرائيليّين بكلّ ذلك، كلّ ذلك يعيد تأسيس سابقة مدمّرة لما سنكون قادرين على احتماله واعتباره طبيعيًّا، ولمَنْ. غدًا، ستقدّم جنوب أفريقيا القضيّة ضدّ انتهاك إسرائيل لـ «اتّفاقيّة الإبادة الجماعيّة» لعام 1948 أمام «محكمة العدل الدوليّة».

أيّ نوع من المناهج التعليميّة مطلوب لجعل مثل هذا العنف المحسوب غير وارد حتّى في الخيال؟ ما هي مسؤوليّاتنا تجاه أشكال التعلّم والتطوّر الأخلاقيّ الّذي يتطلّبه عالم مثل هذا؟

كما تذكّرنا نورة عريقات، هذا العنف ليس فقط حول العدد الساحق من القتلى، بل هو أيضًا حول تدمير الأماكن والمجتمعات والذكريات والعلاقات وبيئات التعلّم والتاريخ والإمكانيّات المستقبليّة - الظواهر الاجتماعيّة والنفسيّة الّتي كرّس الكثير منّا حياته لدراستها. يجب أن يتضمّن عمل بناء العوالم الرقيق والخياليّ رفضًا مبدئيًّا لما تسمّيه عريقات "تهشيم العوالم".

غالبًا ما تهتمّ منهجيّاتنا التأمّليّة في التعاون من أجل خلق الظروف للناس من أجل أن يحلموا ويجسّدوا عوالم ممكنة. ومع ذلك، كانت ظروفنا الحاليّة الواقعيّة تدفعني للسؤال: ما الّذي يجب أن نتعاون حتّى نجعله مستحيلًا؟ أيّ نوع من المناهج التعليميّة مطلوب لجعل مثل هذا العنف المحسوب غير وارد حتّى في الخيال؟ ما هي مسؤوليّاتنا تجاه أشكال التعلّم والتطوّر الأخلاقيّ الّذي يتطلّبه عالم مثل هذا؟

إذا كنّا سنتخيّل مجتمعات خالية من العنف الاستعماريّ، يجب علينا أن نتواجه مع الكيفيّة الّتي أصبح فيها هذا النوع من اللّاأنسنة والاستيلاء مسموحًا. فلسطين تعلّمني أنّنا قد نكون أفضل في متابعة هذا السؤال تاريخيًّا منه في الوقت الراهن، ممّا يجعلنيّ قلقة بشأن العوالم الّتي نعمل نحوها إذا لم نتمكّن من توضيح قيمنا الأساسيّة وأسسنا الأخلاقيّة. بصفتنا علماء نفس ثقافيّين، يجب أن نسأل: كيف ساهمت التحيّزات المنهجيّة والتعميمات المستخلصة من عيّنات ضيّقة ومتجانسة في تضخيم إنسانيّة أقلّيّة متميّزة بينما تشوّه عقول وشخصيّات الأغلبيّة العالميّة؟ كيف تساعد مثل هذه الأساطير ’العلميّة‘ والتواطؤ العلميّ في خلق الأساس المعرفيّ لنظام الاحتلال والفصل العنصريّ ليعرّف نفسه بأنّه "الديمقراطيّة الوحيدة في الشرق الأوسط"؟

لقد أعاد الفكر الفيغوتسكيّ[1] [المترجم: نسبة إلى عالم النفس السوفييتيّ ليف فيغوتسكي (1896-1934)] إنتاج وتحدّي الطرق الّتي يجري من خلالها تمويه الفوقيّة الثقافيّة والمعرفيّة على أنّها حقائق عالميّة، ممّا يشكّل الأسئلة الّتي نطرحها، والأساليب الّتي نستخدمها، والاستنتاجات الّتي نستخلصها عن الإدراك والنشاط البشريّين.

العديد من الحاضرين اليوم يعملون على خلق التحوّلات في النموذج الّذي سيتطلّب من أيّ دراسة سليمة لتعلّم الإنسان والعقل أن تشتبك بجدّيّة مع الأدوار التأسيسيّة للثقافة والتاريخ والقوّة والأخلاق، لرفض الترتيب الهرميّ للحياة، لفضح الفوقيّة على أنّها مفلسة أخلاقيًّا وفكريًّا وغير علميّة. ومع ذلك، يستمرّ سياسيّونا وغرف الأخبار وأمناء الجامعات في سرد قصّة مختلفة تمامًا، ممّا يتطلّب منّا الاستمرار في السؤال: مَنْ يُحْسَب إنسانًا؟

سؤال يرتبط ارتباطًا وثيقًا بآخر: ما الّذي يجب أن يتعلّمه أطفالنا عن العنف الممارَس على إخوانهم في فلسطين؟ لقد كنت أصارع لبعض الوقت مع الكيفيّة الّتي تقدّم فيها مفاهيمنا للعدالة التعليميّة غالبًا وجهات نظر أمريكيّة للعدالة العرقيّة، وتفشل في التعامل بجديّة مع قضايا الإمبراطوريّة. لقد تعلّمت أنّ طرح هذه المخاوف مثير للجدل لأنّه يعكر صفو فرضيّة السعي للاندماج في المشروع الأمريكيّ، ولأنه يتطلّب فحصًا جدّيًّا لأهداف التعليم وتواطؤ الممارسات التأديبيّة وأنظمة المعرفة الّتي تبدو محايدة.

أين كنّا اليوم لو أنّ شعار "لن يحدث مجدّدًا" قد جرى تطبيقه أيضًا على الدراسة الصادقة لتدخّلات الولايات المتّحدة في أماكن مثل فييتنام وغواتيمالا والفلبّين وتشيلي والعراق؟ لو كان الطلّاب يتعلّمون عن دعم الولايات المتحدة لجنوب أفريقيا خلال فترة الفصل العنصريّ وأشكال المقاطعة والتجريد من الاستثمارات والتضامن الّتي أنهتها؟ لو أنّ تصميم القنابل والأسلحة أصبح جزءًا من مناهج التاريخ والأخلاق بدلًا من أن يكون جزءًا عاديًّا وغير مُساءَل في دراسات الهندسة في القرن الحادي والعشرين؟ أيّ نوع من الحاضر البديل كنّا سنشهده لو كان الطلّاب ملمّين جيّدّا بشعر هبة أبو ندى ورفعت العرعير؟ لو كان لديهم إمكانيّة الوصول إلى التاريخ الغنيّ للتنظيم اليهوديّ المناهض للصهيونيّة، وللتضامنين الأسود والأصلانيّ مع فلسطين؟ لو كانوا يُدْعَمون بانتظام لرؤية العالم من منظور ما هو معطاء للحياة بدلًا من كونه استخراجيًّا؟ لقد قضيت وقتًا كافيًا مع الأطفال لأعرف أنّ الطريق الثاني هو السائد لكنّه مفروض فرضًا.

يمكننا أن نرى بوادر قويّة لهذه الإمكانيّات في الاحتجاجات الجماعيّة وتنظيمات الطلّاب من أجل فلسطين، وفي الدور الّذي أدّته إمكانيّات الوصول إلى السرديّات البديلة في الحثّ على مثل هذه التحرّكات. كمنهجيّين يوتوبيّين، يجب أن نكون متمرّسين جيّدًا في إدراك هذه البذور التحويليّة، وفي دعم الطلّاب والمعلّمين لرسم الصلات بين الإمبراطوريّة وأشكال العنف العنصريّ والاستعمار الاستيطانيّ الّذي يحدّد مجتمعاتهم.

أعيش في مدينة سُمِّيَت باسم جون إيفانز، رجل مسؤول عن مذبحة «ساند كريك»، وأعمل في جامعة تأسّست من الأرباح المستفادة من تدمير حياة شعوب الشايان والآراباهو. ومع ذلك، لا تقوم مؤسّستنا بتدريس تاريخها الخاصّ بشكل كافٍ، والمسؤوليّات الأخلاقيّة الّتي نحملها تجاه هذه القبائل، وتجاه «مجلس النيران الثلاثة» (Council of Three Fires)، وسيادة السكّان الأصلانيّين ومستقبلهم في الأراضي الّتي ندرس ونعمل فيها. غالبًا ما يكون طلّاب المدرسة المتوسّطة في برنامجنا الصيفيّ في إيفانستون، إلينوي،  يبلغون من العمر 11 أو 12 عامًا قبل أن يتعلّموا قصّة اسم مدينتهم. استجاباتهم المتسائلة ورغبتهم في أن يكونوا في علاقات صحيحة تساعدني على فهم السبب. حركات «مكافحة الوعي التقدّميّ» انعكاس حقيقيّ لما يعتقد الأشخاص الّذين يمتلكون السلطة أنّ تقديم قصص مختلفة عن السائد سوف يغيّره. استهداف الشعراء والكتّاب والصحافيّين دائمًا يكشف الحقيقة: الرقباء والقتلة يخافون من الكلمات.

أيّ نوع من الحاضر البديل كنّا سنشهده لو كان الطلّاب ملمّين جيّدًا بشعر هبة أبو ندى ورفعت العرعير؟ لو كان لديهم إمكانيّة الوصول إلى التاريخ الغنيّ للتنظيم اليهوديّ المناهض للصهيونيّة، وللتضامنين الأسود والأصلانيّ مع فلسطين؟

مقياس القمع الّذي يتكشّف حاليًّا في مدارسنا وجامعاتنا يصرف طاقاتنا الجماعيّة بعيدًا عن الأسئلة الأكثر إلحاحًا حول ما يجب تدريسه، وكيف. عندما أعلّم ابنتي البالغة من العمر 8 سنوات معنى ’الإبادة الجماعيّة‘ و’الفصل العنصريّ‘، وأفكّر في الفيديوهات الّتي يجب السماح لها بمشاهدتها حتّى لا أغذّي كوابيسها، أعلم أنّ هذه ليست أسئلة تربويّة بسيطة. أعلم أنّ الصور تجعل ما لا تحتمل هي تخيّله واقعًا قاسيًا لما يمكن أن يفعله الكبار في عالم يخبرون فيه الأطفال أنّ عليهم حلّ مشكلاتهم بالكلمات. أحتاج إلى تعليمها أنّه عندما تقول «سي إن إن» و«نيويورك تايمز» إنّ الأمر معقّد للغايّة، فإنّهم يخفون ما هو واضح للعيان، لكنّني أحتاجها أن تعرف أنّ النضال من أجل إزالة الاستعمار الّذي يرفض تجريد أيّ كان من إنسانيّته، معقّد، وحقيقيّ، ويستحقّ أن نقدّم له أنفاسنا.

لقد ربّتني التقاليد الماركسيّة والفيغوتسكيّة على فهم أنّ صيرورة الإنسان تتشكّل تاريخيًّا، وأنّها قابلة للتغيّر والتغيير، وأنّ الظروف العلائقيّة يمكن أن تجعل المستحيل يتنفّس. ما هي الظروف العلائقيّة الّتي يمكن أن تقوّض قوّة القمع الهشّة؟ كيف سيبدو الأمر الآن لو كانت مجالاتنا العمليّة وتخصّصاتنا تستجيب بطرق تنصف حياة الأطفال والعائلات الفلسطينيّة؟ ماذا تعني إجاباتنا في عملنا الحاليّ؟ ما هي السوابق البديلة الّتي يمكن تكريسها؟ ما التغيّيرات الّتي ستجعل أشكال العيش الأخرى ممكنة؟

 


 

روزَنَة: إطلالة على الثقافة الفلسطينيّة في المنابر العالميّة، من خلال ترجمة موادّ من لغات مختلفة إلى العربيّة وإتاحتها لقرّاء فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة. موادّ روزَنَة لا تعبّر بالضرورة عن مبادئ وتوجّهات فُسْحَة، الّتي ترصدها وتنقلها للوقوف على كيفيّة حضور الثقافة الفلسطينيّة وشوؤنها وتناولها عالميًّا.

 

 

 

التعليقات